الأربعاء، 7 نوفمبر 2012

بعضا من المال

وظيفة الكبار هي سرقة الأحلام. اليوم عادت بي الذكرى لأيام المدرسة، في اللحظة التي صارحت فيها صديقي بأنني تخليت عن حلمي القديم لأنه يبدو صعب المنال و قررت استبداله بحلم آخر أكثر واقعية. أخبرته بأنه يصعب على المرء أن يصبح وزيرا هذه الأيام من دون واسطة ما، و بأنني قررت بدلا من ذلك أن أختار حلما لا أحتاج فيه إلى شئ و لذلك قررت أن أنشئ مصنعا وطنيا للسيارات، تحمس صديقي للفكرة  ثم اكتشفنا لاحقا بأن مصنع السيارات لا يختلف كثيرا عن الوزير فهو أيضا يحتاج لشئ  من عالم الكبار، مصنع السيارات يحتاج إلى المال .. الكثير من المال.

المال. لا أعلم لمذا يسمى بهذا الاسم. ربما لأن أول من اهتم لأمره "مال" إليه و ترك الناس ثم مال الناس معه. المال هو ما يريدك الكبار أن تفكر فيه. هو الحلم الوحيد الذي سيسمحون لك باتخاذه. تتنازل عن أحلامك واحدا تلو الآخر و يصبح همك هو الحصول على تلك الترقية أو ذلك المنصب. يقول لي طالب الطب، في صغري كنت أريد أن أصبح جراحا لأني كنت أستشعر عظمة هذه المهنة و نبلها أما الآن فكل ما أريده هو مسكن لائق و سيارة محترمة و الجراحة ستحقق لي ذلك. اللعنة على المال قاتل الأحلام.

يجلس مع صديقه حول طاولة أحد المطاعم المزدحمة في فسحة الغداء، يبدأ الحديث ب "وش الجديد؟" و ينتهي بلعن تخصصهم الجامعي. لم يكونا كذلك أيام الجامعة، كانت هوايتهم تبادل المقالات حول تخصصهم، كانت الساعات تطوى و هما يتبجحان أمام رفقاهم حول أهمية ما يدرسانه مثلهم مثل الكثير من الطلاب الحالمين. أما الآن فهما يلعنان نفس التخصص الذي كانا يفتخران به. التخصص لم يتغير و لكن المال هو من تغير. هما لا يلعنان التخصص بقدر ما يلعنان الأحلام التي تكسرت على باب المال و لم يفتح لهم.

لعله المال الذي جعل إيمانويل كانط رتيبا حتى التخمة. كان الفيلسوف الألماني هو أول الفلاسفة العظام الذين امتهنوا الفلسفة كمهنة. كان الرجل الذي لم يغادر المقاطعة التي ولد فيها طيلة حياته صاحب روتين صارم حتى قيل بأن جيرانه كانوا يضبطون ساعاتهم على جدوله اليومي. أهو المال الذي يجعل المرء هكذا؟ لا أعلم ربما. و لعله هذا ما جعل الفيلسوف الألماني الآخر شوبنهاور  ينتقد اتخاذ الفلسفة كمهنة. ربما أدرك بأن السعي وراء المال يحرق الأحلام و الفلسفة بدورها تحتاج إلى الحالمين الطموحين.

عشرون، ثلاثون،أربعون؟ كم هو عدد السنين التي يجب أن يقضيها الإنسان و هو يقوم تقريبا بنفس العمل يوما بعد يوم؟ نحن البشر أُعطينا القدرة على التعود، عندما نتعود تصبح الأمور أسهل و بالتالي نستطيع أن نستثمر مجهوداتنا على أمور أكبر، لكننا بدلا من ذلك نتعود كي لا نحتاج إلى أن نبذل أي مجهود. نقطة قوة البشر هي ذاتها نقطة ضعفهم. هل يتحتم علينا أن نصبح آلات تكرارية صماء. نعمل طيلة الشهر ليقوم صاحب العمل بوضع الزيت في مفاصلنا نهاية الشهر على شكل "مال" حتى نكرر العمل شهرا آخر؟ سنة أخرى؟ عقدا آخر؟ لو كان بإمكاننا لفعلنا ذلك عمرا آخر مادام المال لا يتوقف و مادام الجسد لا يتأفف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق