الثلاثاء، 8 أبريل 2014

هيوم و السببية

القسم الأول

في دهاليز الجامعة العربية قام مجموعة من العلماء العرب باستنساخ تجربة مختبر "أكمي" لإنتاج الفأرين الناطقين بينكي الغبي و برين الذكي و لكن بسبب انشغال العلماء بلعب البلوت حدث خطأ تسبب في انتاج فأر يمتلك عقل الفيلسوف ديفيد هيوم بدلا من الفأر الغبي بينكي. اكتشف العلماء خطأهم بعد فوات الأوان فقرروا تعليم الفأرين أغنية فيروز "ستي يا ستي" لتشتيت الرؤساء عن هذا الخطأ.
كانت الخطة سهلة، كل يوم يأتي عالم في الساعة السادسة صباحا و يشغل الأغنية ثم يصرخ على الفأرين "غنوا ... غنوا!" بعدها يشغل الصاعق الكهربائي على الفأرين فيصعقهم. قفص الفأرين كان مغطى بالكامل و لا يمكن للفأرين معرفة ما يحدث في الخارج كما أنهما لا يجيدان اللغة العربية و هذا ما زاد من حيرتهما.

بعد أسبوع من الصعق قال الفأر الذكي برين لهيوم: "أنا أعلم مالذي يحدث، لا يمكنني التأكد 100% لكني أعتقد بأن الصوت "غنوا .. غنوا!" يسبب هذا الألم الغريب. ألا ترى أنه في كل مرة نسمع فيها هذا الصوت ينتابنا الألم؟" لابد أنه المصدر. الفأر هيوم لم يكن متأكدا لكنه ظل صامتا فهو لم يكن يمتلك تفسيرا أفضل.

في الأسبوع الثالث صارح برين زميله في الزنزانة قائلا: أنا آسف يا صديقي لكني كنت مخطئا، من السذاجة الاعتقاد بأن "غنوا ... غنوا!" هو ما يسبب هذا الألم". تفاجأ هيوم من كلام برين و قال: "مالذي دفعك لقول ذلك؟" قال برين: "كنت أفكر في الموضوع طويلا لأنه قبل يومين انتابنا هذا الألم من دون أن نسمع "غنوا .. غنوا!" إذا لا يمكن أن يكون هو السبب لكني الآن أعرف ماهو السبب الحقيقي". نظر هيوم بفضول إلى وجه صاحبه منتظرا معرفة سر هذه الآلام. "السبب واضح يا ديفيد، لابد أن يكون السبب هو تلك التعويذة (الأغنية)، ألم تلاحظ بأنه في كل مرة تشتغل فيها التعويذة يأتينا الألم. لابد أن التعويذة تمتلك قدرة ما هي التي تجعلنا نتألم. أنا متأكد يا صديقي أننا إذا أردنا أن نوقف هذا الألم فإن علينا أيجاد طريقة لإيقاف تلك التعويذة". هز هيوم أذنيه كعلامة على عدم الاقتناع مما أثار غضب برين.


في الأسبوع الخامس تمكن برين من وضع معادلة رياضية يستطيع من خلالها أن يتنبأ بدقة كبيرة بوقت حلول الألم. "أنظر يا ديفيد، إذا لم يكن تحليلي صائبا فكيف أصبح بامكاني أن أتنبأ بالألم في كل مرة؟".


كان برين يعتقد بأن التعويذة لها قدرة على التأثير في الأقدام. فالألم يبدوا أنه يبتدئ من الأقدام ثم ينتشر في أنحاء جسمه لكنه بالمصادفة كان نائما على ظهره عندما حلت الصعقة فارتعش جسمه بشدة لكنه لاحظ شيئا. الألم لم يبتدئ من قدمه كما في كل مرة. قال لصديقه "اسمع يا هيوم! التعويذة لا تؤثر على القدم بل هي تؤثر على الجسم الملامس للأرض. ليس هذا فحسب بل لدي خطة للتغلب على هذه التعويذة"


في اليوم التالي قام برين بالاستعانة بمعادلته الرياضية لتحديد وقت الصعقة الكهربائية و قفز هو و صديقه في اللحظة التي كان من المفترض أن تأتي فيه الصعقة و كانت المفاجئة! لأول مرة منذ 7 أسابيع لم يشعرا بالألم. في اليوم التالي كررا نفس العملية و كانت النتيجة مماثلة. و في كل مرة كان يقول فيها برين لهيوم، لم أستطع فقط أن أكتشف سبب الألم ألا و هو تلك التعويذة بل إنني وجدت طريقة للتغلب عليها.

في الأسبوع الثامن جن جنون العالم و قرر حقن السجينين بمحلول يمنعهما من القفز. فقام بتشغيل أغنية فيروز ثم فتح باب القفص و هجم عليهما بإبرته، انتهز السجينان الفرصة و فرا خارجا، هيوم توجه بالسرعة لخارج المكان أما برين فتتبع صوت "التعويذة" إلى أن وجد جهاز البث و جعل يعبث فيه إلى أن توقفت الأغنية. ثم خرج تابعا صديقه.

في الساعة السادسة لليوم التالي (الوقت الذي كانا يتعرضا فيه للصعق) قال برين لصديقه: "لا تخف يا ديفيد فلقد قتلت تلك الساحرة و لن يصيبنا الألم بعد الآن" و بالفعل لم يأتيهم الألم بعد ذلك اليوم. و ظل برين يقول لصاحبه في كل يوم: "أنظر يا ديفيد لقد حددت سبب الألم ألا و هو تلك التعويذة و اكتشفت طريقة تفاديها ثم قتلت تلك الساحرة مصدر التعويذة. كيف يمكنك أن تشك في استنتاجاتي و انت ترى نتائجها العملية في كل مرة؟"

القسم الثاني

ماذا يعني كل ذلك؟
فوائد العلم جلية و لا داعي لتعداد المنافع التي تقدمها لنا العلوم الحديثة. العلم هو الذي ساعد برين للتخلص من الصعق الكهربائي و بالتأكيد سيساعد الفأران في حياتهما خارج المختبر.كما يساعدنا في كل يوم ابتداءا من لحظة انطلاق منبه الصباح و حتى الوقت الذي نطفئ فيه مصباح الغرفة لنخلد إلى النوم.


لكن هل هذا يعني بأن العلم صحيح؟ ماذا يعني أن يكون العلم صحيحا؟ أحد الآراء البارزة التي تحاول الإجابة على هذا السؤال تنص على أن العلم الصحيح هو ذاك العلم الذي يستطيع أن يفسر الظاهرة و يتنبأ بوقوعها. فقوانين نيوتن للجاذبية يمكن اعتبارها قوانين صحيحة لأنها تتمكن من تحديد مواقع الكواكب و التنبؤ بمكانها بدقة متناهية. إذا سلمنا بهذا الرأي فإن ادعاء برين بأن "الألم" سببه تعويذة تلقيها الساحرة على أرض السجن يعتبر صحيحا لأن برين قد أثبت صحة زعمه بثلاث طرق. أولا: استطاع أن يتوقع وقت الألم تماما كما يتوقع الطبيب آثار البيكتيريا الضارة. ثانيا: استطاع أن يجد طريقة لصد الألم تماما مثل ما يستطيع الطبيب انتاج لقاحات واقية. ثالثا: استطاع أن يزيل سبب الخطر (بتكسير المسجل) كما يزيل الطبيب البكتيريا بالمضادات الحيوية. فهل بامكاننا اعتبار استنتاجات برين علما صحيحا بناءا على فعاليتها؟
هذا هراء، لا يمكنك أن تقارن بين الحالتين. العلوم الطبية هي نتيجة لتجارب و دراسات متعددة و ليست مبنية على تحليلات سطحية مثل التي قام بها برين
صحيح بأن العلوم التي بين يدينا هي نتيجة تراكمات العديد من التجارب و الدراسات لكن كذلك هي ادعاءات برين. لاحظ أن برين كان يعتقد بأن التعويذة تصيب الأرجل ثم عدل رأيه -بناءا على التجربة- و قال بأن التعويذة تصيب الأرض و تنتقل بالملامسة إلى باقي أعضاء الجسم و ربما لو طال به الأمد لاكتشف أن التعويذة ماهي الا كهرباء و بأنها ليست ناتجة عن صوت آلة التسجيل بل إن سببها هو العالم الذي يشغل الصاعق و بأن الصاعق يتكون من مغناطيس و أسلاك و بأن الكهرباء تنتقي في الأسلاك و في المواد الفلزية. نعم ربما يكتشف كل ذلك لكن تظل المسألة واحدة، العلم لا يعدو على كونه تجارب فما هو الفاصل بين العلم الصحيح و العلم الخاطئ؟

هنا يأتي دور فيلسوفنا ديفيد هيوم و الذي أستميحه العذر على تسميتي الفأر على اسمه (في الحقيقة لا أعرف موقف هيوم من الفئران). الفيلسوف الاسكتلندي الذي ولد في ادنبرة في القرن الثامن عشر سيجيب بكل ثقة بأنه لا يوجد فاصل بين العلم الصحيح و العلم الخاطئ. بالنسبة لهيوم لا توجد طريقة يمكن الاستعانة بها لكي نثبت بأن الألم متسبب من تعويذة أو بأن المرض يسببه فيروس أو بأن الصعق الكهربائي يسبب الألم. الحقيقة أن هيوم يعتقد بأن العلم ليس إلا تمحيصا للتجارب و التجربة لا تستطيع أن تزعم بأن س سبب ص. أقصى ما يستطيع إدعاءه العلم هو وجود علاقة بين س و ص مثلا هناك تتابع ملاحظ بين تعريضك الانسان للصعق الكهربائي و بين شعوره بالألم لكن العلم لا يستطيع الادعاء بأن الصعق الكهربائي يسبب الألم. الصعق الكهربائي حدث و الشعور بالألم حدث آخر و إن بدى بينهما تتابع. لكن كلما تكرر تتابع الحدثان فإن الشخص الملاحظ تتكون عنده حالة ذهنية تسمى "عادة" بحيث أنه عندما يقع الحدث الأول فإن العادة تخبره بأن الحدث الثاني سيتبعه، فما يسميه الناس سببية ليس إلا عادة تكونت جراء تكرر تتابع الأشياء الملاحظ  بالتجربة، و قانون نيوتن للجاذبية ليس إلا قولبة لعادة ألا و هي بأن الأجسام الصغيرة تنجذب للأجسام الكبيرة.

مالفائدة من كل هذا؟ فسواءا اعتبرنا الأجسام الكبيرة تتسبب في جذب الأجسام الصغيرة أو بأن العادة جرت بأن الأجسام الصغيرة تنجذب للأجسام الكبيرة فإن النتيجة واحدة.

القول بأن الأجسام الكبيرة تتسبب في جذب اللأجسام الصغيرة يعني بأنه هناك قاعدة كونية تسري على جميع الأجسام في كل الأوقات. اعتراض هيوم على هذا الاستنتاج ناشئ من كون هذا الاستنتاج لم يقم حقيقة بتجربة علاقة التجاذب بين كل الأجسام الموجودة في العالم، و حتى إن تمكن بفعل قدرة خارقة و درس العلاقة بين كل الأجسام في الكون فإن هذه التجربة لا تعطيه الحق بأن يستنتج بأن علاقة التجاذب بين الأجسام ستظل هكذا في المستقبل. كما ذكرنا سابقا، كل ما يمكن استنتاجه من هذه التجربة هو تكون عادة. فلا يجب علينا أن نستغرب عندما نشاهد أجساما لا تتصرف وفق هذه العادة، و لعل خير دليل على ذلك هو ما تم اكتشافه في العقود الأخيرة في حقل الفيزياء الكمية حيث لوحظ بأن الجسيمات الدون ذرية لا تتصرف بشكل يتوافق مع ما نعرفه من قوانين الفيزياء التي تربط بين الأجسام الأخرى.  فهذه الجسيمات يبدو أنها تختفي فجأة و تتوالد من العدم بل بإمكانها أن تتواجد في مكانين مختلفين في آن واحد! هذه الجسيمات المتناهية الحجم يبدو أنها تهزأ بكل ما كان يؤمن به علماء الفيزياء و ضربت بعرض الحائط تراكمات آلاف السنين من التجارب البشرية، و قلبت الفيزياء الكلاسيكية رأسا على عقب. لم يدرك هيوم الطفرة التي حدثت في الفيزياء الكمية لكنه بالتأكيد سيكون أسعد شخص بهذا الاكتشاف، فكل ما كان يحذر منه من التمادي في ادعاء وجود أسباب عالمية يمكن اكتشافها عن طريق التجربة حدث بالفعل. ربما كان سيقول لهم "أنتم كذبتم الكذبة و صدقتموها و الآن تستعجبون لماذا الكذبة ليست حقيقة".

===============================
المراجع
مقطع من وثائقي عن الفيزياء الكمية 
http://www.youtube.com/watch?v=ieqfD2J9E3Y#t=51

للمزيد عن نقد السببية راجع:
ديفيد هيوم "تحقيق في الذهن البشري"، طباعة المنظمة العربية للترجمة.





الاثنين، 20 يناير 2014

يوم عمل

 
تدير محرك السيارة في صباح يوم الأحد و تبحث في الاذاعة عابثا عن شئ يزيح عنك هم مشوار ال ٣٦ دقيقة. يحاول المذيع خفيف الظل أن يلطف الجو بمفاكهة المتصلين لكنك تفقد صوابك في كل مرة و تطفئ المذياع بعصبية. في السابق كنت تئن لصوت ارتطام السيارة بالحفر التي تتسع مع الوقت و كأن في باطنها كائن يقتات على الاسفلت. أما الآن فقد اعتدت على السمفونية التي تصدر عن انكماش النوابض و قرع العجلات و التواء الأذرعة. 
 
على مدخل مقر العمل تناظرك اللوحات التحفيزية بسخرية "موظفونا هم أثمن ما نملك" و قد كتبت بلغة أجنبية لسبب ما. الطريق الأقصر لمكتبك يمر بمكتب الرئيس لكنك عندما تتذكر انك تأخرت في تسليم اقتراحات "لتطوير بيئة العمل" تقرر سلوك الطريق الأطول معلنا ابتداء لعبة القط و الفأر لهذا اليوم.

ما إن تجلس على مكتبك حتى يرن جوالك. "السواق ما جا" يقول ابنك الذي بإمكانك تمييز ابتسامته عبر سماعة الجوال و أمه تولول عليه في الخلفية. فتجيبه كاذبا "طيب الحين أشوفه" قبل أن تغلق جوالك و ترميه في الدرج. تطالع في المكتب صور من أيام قديمة و شهادات لا تدري لماذا حصلتها و مجموعة أقلام لست متأكدا أيها يعمل. كل شئ كئيب ما عدا التقويم الذي يخبرك بموعد الاجازة القادمة.
 
على شاشة الحاسب يظهر لك رقم طالما تمنيت زواله و قد حان وقت تصفيره، (62) inbox.  تقنع نفسك بأنك تحتاج للتسخين قبل الشروع في مذبحة الايميلات  فتحاول أن تقتل الساعة الأولى من العمل بقراءة الاخبار التي لا تكل عن تكرار نفسها في كل صبيحة، قُتِل و جُرح و احتج و اعتصم، و في قسم "المقالات الأكثر قراءة" فنانة تطلقت و لاعب اعتزل و في الوتساب معاجز و نكت و مقاطع لا تستطيع تشغيلها لانك نسيت سماعة الأذن مرة أخرى. بعد عشر دقائق يرن هاتف المكتب، "إبنك لم يأتِ للمدرسة اليوم" فتتذكر عدد المرات التي أقسمت فيها بأنك سترّحِل السائق، ثم تتذكر بأن السيارة في التصليح بعد ان ارتطم السائق بها بعمود الإنارة، و بأنه كان عليك إيصال ابنك المدرسة هذا الصباح فتمنيت لو أن العمود هوى على رأسه ، "آه صحيح نسيت أن اخبركم بأن ابني مريض اليوم....نعم سأحضر عذرا طبيا".
بعد أن تقضي اليوم في التردد بين آلة القهوة و مكتب زميلك المفضل ترمق الشاشة للمرة الأخيرة و في نفسك بعض من الفخر الذي ما يلبث أن يستحيل كآبة لرؤيتك الذي طبع عليها بالأزرق العريض فتغلق الجهاز و أنت تتمتم ببعض الشتائم التي تخرج من بين شفتيك ببلادة و عبثية.(70) inbox