السبت، 8 سبتمبر 2012

الغزالي و التردد بين الشك و اليقين


عادة يحاول الإنسان  في حياته الابتعاد عن الغموض و عدم المعرفة. يمكن تقسيم تعامل الناس مع حالة الغموض و عدم المعرفة إلى قسمين، إيجابي و سلبي. و ليس المقصود بإيجابي هو حسن و سلبي هو سئ. بل المقصود بالإيجابية هو المبادرة و بالسلبية هو الثبات. يعرف المهتمون بالرياضة هذا التقسيم فاللعب الإيجابي يعني الهجوم و الأخذ بزمام المبادرة بينما اللعب السلبي يعني الدفاع و الحفاظ على النتيجة.

من الجانب الإيجابي، رغبة الإنسان في التخلص من الغموض تحثه على البحث عن المعرفة و تحصيلها بغية تقليص مجال الغموض. كل ما نراه من حضارة إنسانية إنما هو نتاج نفور الإنسان من حالة الغموض و عدم المعرفة هذه إلى التعلم و البحث. الإيجابية تأتي مقترنة بعدم التسليم للواقع بدون مناقشة و حساب، أي أن الإيجابي يدقق و يمحص قبل قبول اعتقاد ما. في أقصى حالاتها تؤدي الإيجابية في التعامل مع عدم المعرفة إلى التشكيك المطلق و عدم التصديق بأي حقيقة، كما فعلت بعض المدارس الفلسفية عندما أنكرت وجود الدليل. و كذلك الكثير من اللادينين يقولون باستحالة اثبات أو انكار وجود الخالق لأن الدليل غير كافٍ لذلك. تجدر الإشارة إلى أن الإيجابية لا تعني بالضرورة الإلحاد و اللادينية، بل إنها تعني بأن الإيمان يأتي عن طريق المناقشة و البحث. و الموضوع ليس مختصا بالأديان، فالإيجابية في العلوم الأخرى تعني مناقشة النظريات و البراهين قبل الوثوق بها.

أما من الجانب السلبي فإن نفور الإنسان من حالة الغموض قد يدفعه للركون إلى الوضع الحالي و الإيمان به بغية عدم الوقوع فريسة لحالة عدم اليقين و الشكوك. أي أن الإنسان سيحاول الإلتفاف على حالة الغموض و عدم الإنشغال بها. في الحالات القصوى، تؤدي السلبية في التعامل مع حالة الغموض إلى  إنكار كل ما هو مخالف أو عدم الإلتفات إليه حتى لا يدخل المرء في التشكيك المقلق و متاعبه.

الجانب الإيجابي يؤدي إلى التغيير الدائم و ازدهار العلوم الإنسانية بينما يؤدي الجانب السلبي إلى الحفاظ على المنجزات و صيانتها.

يتذبذب الإنسان في مواقفه بين السلبية و الإيجابية. قد يتخذ الإنسان موقفا إيجابيا من قضية ما، فتراه يحقق فيها و يناقشها حتى إذا حدد موقفه منها ينتقل بعدها إلى السلبية فيتوقف عن النقاش فيها معتبرا أن ما توصل إليه هو الحق. لكن الحقيقة أنه لا يحب أن يبقى في معمعة الشك و التحري إلى الأبد. في هذا المجال، لعله من الملائم ذكر قصة الغزالي.

الغزالي و عدم اليقين


ولد أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري في قرية غزالة بمدينة طوس في ما يعرف الآن بإيران لعائلة صوفية. أقبل على دراسة العلوم الدينية منذ كان صغيرا ثم انتقل لخراسان و تتلمذ على يد الجويني المعروف بإمام الحرمين. يقول د. إبراهيم النجار عن الجويني "اشتهر عنه بتحكيم العقل و إتقان أساليب الجدل و عدم الإطمئنان إلى التقليد و هي نزعات نجدها أيضا عند الغزالي". الغزالي إذا كان مثل أستاذه الجويني يميل إلى الإيجابية في تعامله مع الغموض.

تتضح هذه الإيجابية أكثر لدى الغزالي عندما بدأ بالشك و أصبح لا يقبل أي برهان مهما كان لأنه شكك حتى في قدرة العقل على التحقق من البراهين. يقول الغزالي بأن الحواس لا تستطيع إدراك المعارف و يضرب مثالا على حاسة البصر فهي ترى الظل ثابت عندما تحدق فيه. و لكن العقل يوضح بأن الظل متحرك بدليل أنه لو نظر الشخص إلى الظل ثم عاد بعد ساعة و نظر مرة أخرى لرآه قد تغير. فقوة العين قاصرة عن إدراك المعارف و العقل هو القادر على ذلك. لكن الغزالي يعود ليشكك في قدرة العقل و يتساءل: ربما تكون هناك قوة أقوى من العقل و أن العقل في الحقيقة قاصر و نحن نظن بأننا ندرك الحقيقة و لكن في الحقيقة لسنا ندركها. و يضرب مثلا في حالة النوم فإن النائم يرى الحلم و يظنه حقيقة و لا يشكك فيه لكنه ما يلبث أن يستيقظ من منامه و يكتشف بطلان ما رأى. و هكذا يقول الغزالي بأننا لا نستطيع الاعتماد على العقل فهو مثل البصر و باقي الحواس قد يكون مخادعا.

ظل الغزالي على هذه الحالة محتارا زهاء شهرين. بعدها يقول الغزالي بأنه خرج من هذه الحالة و ابتعد عن حالة الشك لكن ليس بالبرهان و الدليل كما اعتاد أن يفعل و لكن بفضل ما أسماه نور قذفه الله في قلبه حيث يقول عن شفائه "ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر". أي أن الغزالي جنح إلى الأساليب الصوفية ليحل هذه العقدة و يمكن وصف هذا الإنتقال من الإعتماد على المجادلة و البحث إلى الإطمئنان و الروحانيات بالانتقال من الإيجابية إلى السلبية.

لم يكتفي الغزالي بالسلبية في اعتقاده. بل إنه تطرف فيها و اتخذ موقفا حادا من الفلسفة و العلوم التي يستخدمها الفلاسفة كالمنطق. ألف الغزالي كتاب "تهافت الفلاسفة" و شن فيه هجوما لاذعا على الأساليب الفلسفية و فند آراءهم و لم يقبلها. وصل الإنتقاد في بعض الأحيان لمرحلة التكفير و هنا يتبين تطرف الغزالي في السلبية. فبتكفيره بعض الفلاسفة المسلمين كابن سينا و الفارابي يظهر أن الغزالي لا يحاول التحقق من آرائهم أو مناقشتها بل لدحضها و التخلص منها. في الواقع لم يتوقف الغزالي عند مهاجمة الفلاسفة بل إن نقده طال الكثير من الفرق الإسلامية الأخرى غير الصوفية. باختصار، كرس الغزالي جهده في محاربة كل ما هو ليس صوفي.

في نهاية المطاف، تجدر الإشارة بأن الغزالي لا يوصف بالسلبي فقط لأنه ينتقد مخالفيه، فالإيجابي أيضا قد ينتقد مخالفيه. إنما يكمن الفارق بأن الغزالي انطلق من أحاسيسه الروحانية كي يثبت موقفه و بالتالي فإن انتقاده لمخالفيه ليس لغرض البرهنة و البحث و إنما لغرض الحفاظ على سكينته النفسية و عدم الرجوع لحالة فقدان اليقين و التشكيك التي أصابته.

بيت القصيد


ليس الغزالي وحده الذي ينتقل من حالة البحث لحالة الحفاظ على المحصلة. كثير من قراراتنا اليومية و بالخصوص إذا كانت في مجال لا نعرف عنه الكثير تبدأ بالتحري و البحث و تنتهي بالثبات. ابتداءا من ماركة السيارة المفضلة إلى نوعية القهوة و حتى الفلم الأفضل. كلها قرارات غالبا ما تبدأ بالتجريب و التحري و تنتهي بالثبات. فالمتعود على نوعية القهوة لن يحاول غالبا بعد 10 سنوات البحث عن قهوة جديدة و العودة لنقطة الغموض مرة أخرى. و لو لاحظ المرء حياته اليومية و عاداته كيف اكتسبها لوجد بأن كمية كبيرة منها تبدأ بالإيجابية و تنتهي بالسلبية.

يبقى السؤال، هل الإيجابية أفضل من السلبية لأنها تحفز على البحث و المعرفة و تحسين الأوضاع؟ أم أن الراحة النفسية المتأتية من السلبية تستحق التضحية بالفرص التي قد تولدها الإيجابية؟

============================

المراجع:

-مدخل إلى الفلسفة لـ د. إبراهيم النجار. المركز الثقافي للنشر. 2012